مقال ينبغي قراءته بكل تمعن نظرا لاكتنازه لأفكار هامة وجديدة في ضرورة وضع إطار تفهمي لهذه الظاهرة في تونس.
ها هنا بلد أعطى إشارة «الربيع». بلدنا الذي يواصل مسيرته رغم العواصف والهزّات، لا سيّما بفضل مجتمع مدنيّ نشيط تمّ تكريمه بإسناده جائزة نوبل. نفس هذا البلد كان أيضا علىما يبدو مصدر القسط الأوفر من شباب انقاد إلى التطرّف ووهب جسده سلاحا يستعمله داعش على بعد آلاف الأميال من الوطن. داخل حدودنا أيضا، ودعنا نسمي الأشياء بأسمائها، نجد أن جزءا من شبابنا متعصّب وبعضه مجنّد للقتل.
التطرف : أحد المصطلحات الواسعة الانتشار التي قد تنبّه للانتشار المخيف للجهادية المعولمة و لسبل مكافحتها. فبالرغم من التوظيف المبتذل أحيانا، أجزم أن هذا المصطلح يحافظ على شيء من العقلانية في التعاطي بذكاء مع حقائقنا.
عن التطرف والمتطرّفين؟
ان ما يشغلنا جميعا هو هذا التحول الجذري والصاعق لدى بعض الشباب من وضع الضحية (اجتماعية، نفسية،…) الى وضع الجلاد والمحارب الصلب صاحب العقيدة القتالية.
بشيء من التبسيط، نشير الى وجود تفسيرين طاغيين لتكاثر المتطوعين «للجهاد» الذين سريعا ما يمرّون الى الفعل ويزرعون الموت بأوروبا وبتونس وبغيرها من البقاع. يتعلق الأمر بطريقتين لفهم الأمر تستندان إلى نموذجين متباينين:
التفسير الاجتماعي، الذي يعتبر أن الفكر الجهادي يتغذى من يأس شباب مهمش بأحياء الضواحي (بدوار هيشر وبضواحي العاصمة) أو بالجهات المحرومة من التنمية.
من هذا المنطلق، يكون الجهاد التعبير الأقصى على ثورة تونس المنسية ضد مثلث «تونس النافعة». مواجهة بين الأشدّ فقرا و«المتخمين» قاطني الأحياء الراقية. أما بالنسبة للراية السوداء والتكفير وما إلى ذلك، فإنها ليست إلا ثوبا متزمّتا لثورة عارية. لا أحد يملك دراسة شاملة أو استطلاعات دقيقة. لكن لا شك أن البعد الاجتماعي له دور(1)
التفسير الثقافي، من جهته ينظر الى التطرف،بعين المستشرقين الجدد، باعتباره ضربا من التّغول للإسلام السياسي وللإسلام عموما. وهو من هذا المنطلق تعبير عن فشل الفكر الاسلامي الإخواني وظهور جيل جديد من التجمعات الظلامية التي يحكمها مبدأ التحالف والصراع (القاعدة، أنصار الشريعة، داعش). هذا الجيل يعبّر عن صرامته بعنف مروّع.
يستند هذا الطرح، الذي قد يعلّل سياسات البعض من القيادات الأوروبية، إلى طقوس وبالتأكيد أدبيات وتعويذات السلسلة المكتملة للإرهاب من القياديين الى المنفذين مرورا بالقائمين على الدعاية عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
قراءتان أحاديّتان
من جهة، ان تفسير التطرف كنتاج لصراع طبقي صرف لا يتوفق في شرح تطوع شباب متعلم ومنحدر أحيانا من الطبقة الوسطى للانضمام الى التيار الجهادي. في فرنسا 25 % من الجهاديين الذين التحقوا بالشرق الأوسط هم من «السلالة الفرنسية» ومن معتنقي الاسلام الجدد وينحدرون من أوساط اجتماعية مختلفة.
وفي نفس الاطارفإن الانسياق وراء نظرية ما بعد الاسلاميين يعتبر أمرا غير فعّال. فهذه النظرية لم تتوفق في شرح بعض الظواهر: ومن ذلك مسألة الرصيد المعرفي الجد سطحي في الشأن الديني والذي يظهره أحيانا البعض من أصحاب السوابق العدلية الذين تمت «هدايتهم» من قبل أيمة هم بدورهم تقريبا عديمو الثقافة…
وبالإضافة إلى ذلك فإن الالتجاء للعنف يستبق غالبا المطلب الايديولوجي. إن الاسلام التكفيري والجهادي يمثلان مشروعيّة بعديّة. إن مقولة «أوليفي روي Olivier ROY» في هذا السياق تعتبر قيّمة : «لا يتعلق الأمر بتطرف الاسلام ولكن بأسلمة التطرف». هذه المقولة تنطبق، في جانب منها، على الوضع في تونس.
مقاربة شاملة للتطرف
لتفسير ظاهرة التطرف تجدر مقاربتها كمسار معقّد ومتسارع.
إن إغوائيّة الفكر الجهادي تتنزل في سياق تفسخ مزدوج للرابط الاجتماعي والرابط الوطني. لكن المرور الى الفعل أي الى العنف المتطرف ليس آليا.
ويقودنا هذا الاستنتاج إلى أن نأخذ معطى آخر بعين الاعتبار. ذلك أنّ درجة الشعور بالانتماء الى كيان وطني أو جزء منه تتأثر بتفسّخ الروابط الاجتماعية. كما أن التواطؤ بين التهريب والارهاب الذي يحدث هنا وهناك (دون تعميم) يعتبر تجسيدا للتلازم بين المسارالمزدوج لعدم الانتساب الاجتماعي والوطني.
وقد ساهم سياق ما بعد الثورة في الدمج بين المسارين وساعد على ازدهار السلفية عموما والسلفية الجهادية على وجه الخصوص، فضلا عن التعجيل بتبني بعض السلفيين «العلميين» للفكر الجهادي.
وتدعّم هذا الدمج باقتران التوتّر مع اللامبالاة. وكان من أبرز تجليّات ذلك انهيار سلطة الدولة، الافراج عن قيادات جهادية سرعان ما تحولوا الى أبطال، التساهل الخطير لبعض الماسكين بالسلطة ( بين السذاجة والمكيافيلية)، حرب المساجد، الخيام الدعوية والتظاهرات التكفيرية خاصة بمدينة القيروان…
كما أنّ العزوف الاجتماعي، شغور سلطة الدولة، سياسة التلوّن والتلاعب، هي عوامل ساهمت في استيفاء الشروط لتطوير الفكر الجهادي، وبالتالي في تطرّف آلاف الشباب المنتشر في الأحياء الشعبية وبأدغال جبل الشعانبي وغيرها من المناطق أو الذين انتهوا ببؤر النزاعات والحروب الأهلية في الشرق الأوسط.
إن النسخة التونسية من التطرّف هي قصة خسارة كبرى أفضت إلى تفشّي ظاهرة كانت شبه منعدمة الوجود سابقا. كل ذلك في سياق جيوسياسي تميّز بالتبادل الحرّ السائد في سوق الإرهاب المعولم (فرنسا، الشرق الأوسط، تركيا، المغرب…).
التطرف كهوية بديلة
لقد تحدث البعض عن الداعشية كتفرع طائفي وعالمي. وهذا صحيح الى حد ما. إن التطرف هو الخيار من أجل عدمية مطلقة بغلاف «تديّن دون ثقافة» كما قيل.
عدمية اجتماعية لا تعترف الا بنظام إسبرطي للمساواة الحربية. وتعدّ كراهيّة النساء، من هذا المنطلق، أقصى أشكال الإنكارلكلّ تنظيم اجتماعي.
وعدمية سياسية حيث إن الخلافة ذاتها تبدو كشكل من أشكال الفوضى السلطويّة التي يتمّ استنساخها بفضل حتمية الحرب ضدّ الجميع.
ومع ذلك فإنّ هذه العدمية هي هوية إيمانية قوية بالنسبة لأولئك الذين فقدوا الثقة في المجتمع ولم يعودوا يعترفون بأي انتماء وطني. إنّها الهويّة البديلة لمن لا هويّة لهم.
نزع فتيل التطرّف ؟
أصبح الخطاب التحذيري شائعا. ويتنافس الأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون لاقتراح وصفات علاجية. كما أن للخبراء كلمتهم بدون شكّ. لكن الحلول ستكون في كلّ الحالات حلولا سياسيّة.لنترك المشاحنات الكلاميّة جانبا إذن ولنتحدث في السياسة. في حقيقة الأمر إنّ طريقتنا في التفكير و في القول وفي ممارسة السياسة هي اليوم على المحكّ.
لا بدّ من تعبئة جهود بلدنا على مستويات الدولة والشباب حول ثلاثة كلمات مفاتيح:
إعادة الاعتبار للدولة بوصفها المحتكر الوحيد للعنف المشروع. لا يمكننا محاربة الإرهاب بأياد مرتعشة. نحن بحاجة إلى دولة قانون وفي نفس الوقت إلى دولة اجتماعيّة، غير أنه ما زال علينا فعل الكثير لتحقيق هذه الدولة النموذجية. إنّ أساسات هذه الدولة مشروطة بالمقاومة الفعليّة للعلاقات المحرمة بين السياسة والمال والتي تدمّر الطبقة السياسية وتقضي على كل رغبة في الإصلاح. إن استمرار هذا الوضع يشكك في مصداقيّة كل الجهود الجادة في أعين الناس.
تعزيز الفعل الاجتماعي: بمعنى إعادة نسج الروابط الاجتماعيّة. التحدّث والتصرّف اجتماعيّا : ويكتسي خطاب الدولة في هذا السياق أهميّة بالغة، خاصة إذا كان مرفوقا وبصفة آنيّة بمبادرات رمزيّة وقويّة لفائدة الطبقات والجهات الفقيرة.
ومن المهم في هذا الصدد تبويب أولويات التدخلات بين السياسات المباشرة (الأولوية للأمن وللإجراءات الاجتماعية العاجلة) والحلول الآجلة (التعليم، والثقافة، والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، والتنمية الجهوية) …
كما أن الإصلاح التربوي يجب أن يكون هدفا مركزيّا للحدّ تدريجيا من التناقض القائم بين التعليم وسوق الشغل والعمل على استعادة مدرسة بورقيبة والمسعدي, لقيمتها كمدرسة تؤلف بين الجودة وخدمة الشعب.
تعزيز الفعل الوطني : بمعنى تثمين الانتماء إلى الوطن دون أن نجعل من «الاستثناء التونسي» صنما جديدا..
إن البلاد تتخلّص اليوم تدريجيا من فخّ التعصّب الذي أوقع بجزء من الشباب الأكثر هشاشة. ويعتبر الدستور الذي اعتمدته تونس خطوة هامة في هذا المجال (رغم ما يكتنفه من غموض واخلالات في علاقة بشكل النظام السياسي المتذبذب).
إن الرابط الوطني لا يمكن أن يقتصر على السمات الثقافية والمحليّة : يجب علينا تطوير ما يصطلح على تسميته في ألمانيا بـ «الوطنية الدستوريّة» التي تحشد من حولها قيما رئيسية للقوانين الأساسية وتعطي معنى للعمل من أجل المصلحة العامة.
وبعيدا عن منطق الشعارات، سأذكر بعجالة ببعض المسارات السياسية التي من شأنها فسح المجال للقيام بإصلاحات كبرى :
نشرالعدد اللازم من الباحثين بمختلف جهات البلاد لإنجاز بحوث ميدانية تشخص الأطراف المؤثرة والعوامل الملموسة لفعل التطرّف.هذه الدراسات يجب أن تكون في متناول كل صانعي القرار لأجل رؤية مشتركة للظاهرة، وبهدف تحقيق قدر أرفع من التناسق والتناغم بين الخبراء والمجتمع المدني والدولة في سياق الكشف عن منابع التطرّف.
تكثيف المبادرات الهادفة إلى إعادة إدماج الشباب في الشأن العام. إن الهوة بين الأجيال تعتبر فضيحة دائمة ببلد «ثورة الشباب». ومن هذا المنطلق، يفترض أن يتضمن عرضنا الجديد للشباب إلغاء للأحكام القانونية المارقة وتقوية للنسيج الجمعياتي المحلي وتثمينا لخطاب ديني جامع متحرّر من الخبائث المقترنة بالهويّة باعتبار دورها في تأجيج التعصّب.
وضع إطار قانوني لتعزيز وسدّ الثغرات التي يشكو منها قانون الجمعيات ويسمح للدولة بمراقبة التمويلات والفصل بين الفضاءين الثقافي والتعبدي. والأكيد أن الأمر يقتضي كذلك وضع إطار تكميلي لتحييد أماكن العبادة ومقاومة التعصب(حياد سياسي فعلي وليس مجرد حياد حزبي سبق التنصيص عليه بالدستور). باختصار، يقتضي الأمر تقنين تموقع المجتمع المدني في إطاره المدني والفصل البيّن بين الفضاء المدني والفضاء الديني.
وفي نهاية المطاف فإنّ نزع فتيل التطرف يقتضي اطلاق العدّ التنازلي للقضاء على دوامة التطرّف القاتلة.
لعلّ المفارقة التونسية هي التالية : بلد صغير بإمكانيات طبيعية محدودة جدّا وتعوزه التمويلات. بلد يتعرض لهجمات ارهابية كلفته خسائر انسانية واقتصادية رهيبة. بلد صغير يمتلك رغم ذلك المؤهلات التي تمكنه من الخروج من الأزمة. لقد أثبتت تونس للعالم أنها ستواصل مسيرتها رغم التوتر والتجاذبات والحركات الاجتماعية المشروعة. لقد رفضت تونس الوقوع في أحد محظورين :إمّا الفوضى أو حكم العسكر.
(1) ومع ذلك يمكننا التعرض، لدعم هذه القراءة، الى الدراسة المحلية التي قامت بها منظمة «Alert International”والتي جاء فيها أن شباب أحياء دوار هيشر والتضامن يعتبرون، بنسبة 90 % ، أن وضعيتهم الاجتماعية لم تتحسن منذ سنة 2011، ويعتقد نصفهم أن هذه الوضعية زادت سوءا خلال نفس الفترة. كما يمكننا، أيضا، الاستناد الى تقديرات البنك الدولي والتي تشير الى أن أكثر من 30 % من الشباب بتونس من الفئة العمرية بين 15 و25 سنة مهمشون اجتماعيا ومنقطعون عن الدراسة ومقصون عن كل المسارات التكوينية وعاطلون عن العمل…
بقلم كمال الجندوبي