اريك توسّان
أهدي هذا المقال لذكرى يوسف درويش (1910 – 2006) المناضل المصري الذي كافح بلا ملل من أجل العدل والأممية[1] . وقد أودع السجن عديد المرات وعُذّب عقابا له على التزامه الشيوعي وكفاحه من أجل حقوق الإنسان (كان محاميا) وقد واصل نضاله إلى آخر رمق في حياته ففي سنة 2005 وقبل وفاته بقليل كانت له اتصالات مع اللجنة الدولية لإلغاء الديون غير الشرعية لأنّه كان راغبا في تأسيس لجنة مصرية لإلغاء الديون غير الشرعية.
نجاح، ثم تراجع، عن محاولة بناء تنمية مستقلّة بمصر
لقد باشرت مصر في بداية القرن التاسع عشر، وهي ما تزال تحت الوصاية العثمانية، مجهودا كبيرا للتصنيع [2] والتحديث. وقد لخّص جورج قرْم ذلك الرهان بالطريقة التالية : ” من الواضح أنّ محمد علي في مصر سيقوم بعمل لافت للانتباه وذلك بإحداث مصانع حكومية مؤسسا بذلك أسس رأسمالية الدولة التي تذكّرنا بالتجربة اليابانية في عهد مويجي”[3]. إنّ هذا المجهود لتصنيع مصر أُنجز خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر دون اللجوء إلى التداين الخارجي، إذ قد تمّت تعبئة الموارد الداخلية. وفي الفترة الفاصلة بين 1839 و1840 تعرضت مصر إلى تدخل عسكري من بريطانيا العظمى وفرنسا وتبعه حقا عدوان ثان شنّته هذه المرة بريطانيا العظمى والنمسا. وأجبرت هذه التدخلات العسكرية محمد علي على التخلّي عن السيطرة على سوريا وفلسطين وهما البلدان اللذان تعتبرهما هذه القوى حديقتان خاصتان. (انظر، أسفل هذا، خريطة توسّع مصر في عهد محمد علي)
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر حدث انعطاف جذري، إذ تبنّى خلفاء محمد علي التبادل الحر وذلك تحت ضغوط المملكة المتحدة ففككوا احتكارات الدولة والتجأوا إلى الاقتراض الأجنبي بشكل مكثف.
إنّها بداية النهاية وهكذا بدأ عهد التداين في مصر : تم التخلّي عن البنى التحتية لفائدة القوى والبنوك الغربية ومقاولين
عديمي الضمير.
البنوك الأوروبية تريد الإقراض المكثّف خارج أوروبا الغربية
محمد علي، بريشة اوغست كودي
لقد بحث أصحاب البنوك في لندن وباريس وفي ساحات مالية أخرى فيما بين سنوات 1850 و1876 عن إيداع مبالغ ضخمة من المال في مصر وفي الإمبراطورية العثمانية وفي بعض القارات الأخرى (في أوروبا إقراض الإمبراطورية الروسية وفي آسيا إقراض الصين بالخصوص وفي أمريكا اللاتينية)[4]. وهكذا تمّ تأسيس العديد من البنوك في أوروبا بهدف تصريف (توجيه) حركة رؤوس الأموال بين مصر والساحات المالية الأوروبية من ذلك البنك الإنجليزي المصري (تأسس سنة 1864) والبنك الفرنسي المصري (تأسس سنة 1870 وأداره أخ جيل فري العضو البارز في الحكومة الفرنسية)
والبنك النمساوي المصري (تأسس سنة 169).وقد تمّ تأسيس هذا الأخير برعاية كريدي انستالت الذي يمثل مصالح عائلة روتشيلد بفيينا. وكانت كبرى البنوك اللندنية بدورها نشيطة بشكل خاص فقد اختص أصحاب البنوك اللندنية في
القروض طويلة المدة في حين اختصت البنوك الفرنسية في القروض قصيرة المدة الأكثر ربحيّة خصوصا انطلاقا من سنة 1873 حين عصفت أزمة بنكية بلندن وفيينا.
التنمية الاقتصادية بمصر : نجاح بارز وسريع الزوال قائم على المديوينة والتبادل الحر
يبدو في مرحلة أولى أن المنوال الجديد القائم على المديونية والتبادل الحر قد كان ناجعا للغاية، غير أنّه في الواقع فإنّ هذا النجاح الظاهري عائد إلى أحداث خارجية لا بفضل السلطات المصرية. وبالفعل فقد استفادت مصر وقتيا من الخلاف بين دول الجنوب ودول الشمال في أمريكا الشمالية. فقد سبّبت الحرب الأهلية (1861- 1865) في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي في انهيار صادرات القطن بالنسبة إلى الدول الجنوبية من أمريكا الشمالية. وكان ذلك قد سبّب ارتفاعا كبيرا لأسعار القطن في السوق العالمية. فانهارت تبعا لذلك عائدات الصادرات في مصر باعتبارها بلدا منتجا للقطن وأدّى ذلك إلى قبول حكومة إسماعيل باشا للمزيد من القروض المقدّمة من البنوك البريطانية والفرنسية بالخصوص. وعند نهاية الحرب الأهلية عادت صادرات القطن في بلدان جنوب أمريكا الشمالية فانهارت أسعار القطن. تعتمد مصر على العملة الصعبة المتأتيّة من بيع القطن في السوق العالمية (خصوصا صناعة النسيج البريطانية) وذلك لسداد ديونها للبنوك الأوروبية. وقد سبّب نقص عائدات الصادرات أولى الصعوبات أمام سداد الديون المصرية.
إنّ ذلك لم يمنع البنوك وخصوصا الإنكليزية منها من تنظيم إصدار القروض المصرية طويلة المدة (ما بين 20 و30 سنة) أمّا البنوك الفرنسية فقد قدّمت قروضا جديدة قصيرة المدة بالأساس لأنّها تمنحها حق جعل نسبة الفائدة مرتفعة جدا. وقد وصف المؤرخ جان بوفيه هذا الشغف بقوله : ” إنّ مؤسسات الإقراض (بنك باريس وبنك هولندا والكريدي ليوني وسوسيتي جنرال وكونتوار ديسكومب بباريس وكريدي فينانسي ) التي ساهمت إلى الآن في تقديم ‘التسبيقات’ والقروض
لمصر بدأت تبحث بانتظام عن مثل هذه الاستثمارات وعن مثل هذه العمليات الحكومية للبلدان النامية. وفي شهر أفريل 1872 حين كان بنك الكريدي ليوني يتوقع المشاركة، بمعيّة أوبنهايم في ‘تسبقة’ لمصر (سندات على 18 شهرا بـ 5 مليون جنيه إسترليني وبنسبة فائدة 14 % سنويا ) صرّح مديره مازيرات لمراسل صحفي : ” نأمل من خلال هذ التسبقة الكبيرة أن نضع أيدينا على القرض الذي سيتمّ إصداره في السنة القادمة.” [5]
بلوغ الديون المصرية مستوى غير محتمل
بلغت الديون المصرية سنة 1876 ما قيمته 68.5 مليون جنيه إسترليني ( سنة 1863 كانت 3 مليون). فقد تضاعفت الديون الخارجية في غضون 15 عاما بـ 23 مرّة في حين تضاعفت عائدات الصادرات 5 مرات فقط. وقد استهلكت خدمة الدين ثلثيْ عائدات الدولة ونصف عائدات الصادرات.
لقد كانت المبالغ المقترضة والتي وصلت إلى مصر فعلا محدودة جدا في حين كانت المبالغ التي تطلبها البنوك وتتحصل عليها مرتفعة جدا.
لنأخذْ قرض سنة 1862 مثالا : أودعت البنوك الأوروبية سندات مصرية بقيمة اسمية تبلغ 3.3 مليون جنيه إسترليني لكنّها باعتها بـ 83 % من قيمتها الاسمية وهو ما يعني أنّ مصر لم تتحصّل إلا على 2.5 مليون جنية إسترليني، وهو مبلغ يجب إضافة إلى ذلك أن تخصم منه العمولة التي تقتطعها البنوك. ويرتفع المبلغ الذي على مصر سداده في غضون 30 عاما إلى حدود 8 مليون جنيه إسترليني إذا ما أخذنا بعين الاعتبار استهلاك رأس المال وسداد الفوائد.
وهاكم مثال آخر : وهو قرض سنة 1873 إذ أصدرت البنوك الأوروبية سندات مصرية بقيمة اسمية تساوي 32 مليون جنيه إسترليني وتمّ بيعها مع خصم بـ 30 % ، ولم تحصل مصر كنتيجة لذلك إلاّ على أقلّ من 20 مليون جنيهه إسترليني. في حين يرتفع المبلغ الذي عليها سداده إلى 77 مليون جنيه إسترليني.(نسبة فائدة حقيقية 11 % + استهلاك رأس المال).
هكذا نفهم بيسر أنّ هذا التنامي للديون ونسب الفائدة التي تم فرضها امر لا يمكن قبوله. فالشروط المالية التي فرضتها البنوك جعلت من السداد عبئا لا يحتمل. واستتبع ذلك أنه على مصر الاقتراض باستمرار كي تكون قادرة على مواصلة سداد دفوعات مستحقة على قروض قديمة.
لقد بدأ حاكم مصر الخديوي إسماعيل [6] بداية من سنة 1970، وتحت ضغط الدائنين، ببيع البنى التحتية وقدّم امتيازات مختلفة بغية الحصول على السيولة لسداد الديون. وكان عليه كذلك الرفع في الضرائب بانتظام للأسباب نفسها.
وبعد خمس عشرة سنة من التداين الخارجي (1862 – 1875) وجدت مصر نفسها قد أهدرت سيادتها.
وفي سنة 1875 ، حين خنقها الدائنون سلمت الدولة المصرية حصصها من شركة قناة السويس للملكة المتحدة وكان قد تمّ افتتاحها سنة 1869[7]. حيث تم تفويت 176.602 سهما تملكها الدولة المصرية في شركة قناة السويس، وهو ما
يساوي نصف رأس مال هذه الشركة، إلى الحكومة البريطانية في نهاية نوفمبر 1875. وقد تمّ تخصيص النصيب الأكبر من
مداخيل هذا البيع للوفاء باستحقاقات سداد دين ديسمبر 1875 ودين جانفي 1876 وهما قرضان كانا بصفة خاصة
باهظين. وأصبحت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه دائنا مباشرا لمصر فالسندات التي تم اقتناؤها لا تسمح بالحصول على توزيع الأرباح قبل سنة 1894 وتلتزم الحكومة المصرية بأن تدفع للشاري طيلة هذه الفترة فائدة قيمتها 5 % في السنة على بضع مئات الملايين من الفرنكات ثمن الشراء.
وحسب المؤرخ كان بوفييه فــ ” إنّ الخديوي مازال لديه السكك الحديدية التي تمّ تقديرها بـ 300 مليون حسب أحد مدراء الكريدي ليونيي ولديه كذلك 15 % من الأرباح السنوية الصافية من شركة قناة السويس.. وبعد التمكّن من تسوية استحقاقات نهاية السنة بفضل الـ 100 مليون وهو ثمن بيع الأسهم، أعاد الخديوي في جانفي 1876 وبداية فيفري طلب ”تسبيق” بثلاثة أشهر من البنك الإنكليزي المصري وبنك القرض العقاري بنسبة فائدة 14 % في السنة. وقد قدم كضمان لذلك حصته من 15 % من مكافأة شركة السويس وعائدات منتجات مدينة الإسكندرية ورسوم مينائها. ويشارك بنك السوسيتي جينرال في الصفقة التي وفرت 25 مليون فرنك”.
سنة 1876 : مصر كغيرها من البلدان تعلّق سداد ديونها
أخيرا، ورغم المجهودات اليائسة المبذولة لسداد الديون، فقد وجت مصر نفسها مجبرة على تعليق سداد ديونها في سنة 1876. ومن المهمّ التأكيد على أنّه في نفس هذه السنة (1876) كانت دول أخرى قد أعلنت الانقطاع عن سدادا الديون ويتعلّق الأمر هنا بالإمبراطورية العثمانية والبيرو (كانت في ذلك العصر من القوى الاقتصادية الرئيسة في أمريكا الجنوبية) والاورغواي. إنّ ذلك يدفعنا إلى البحث عن الأسباب على الصعيد الدولي. فقد انفجرت أزمة بنكية في نيويورك وفرنكفورت وبرلين وفيينا في سنة 1873 وأثّرت هذه الأزمة تدريجيا في بنوك لندن. وكنتيجة لذلك تقلّصت بشكل كبير الرغبة في إقراض بلدان المحيط في حين كانت هذه البلدان باستمرار في حاجة ماسّة للاقتراض حتى تسدّد ديونها القديمة. وبالإضافة إلى ذلك فقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية في بلدان الشمال حيث انخفضت صادرات الجنوب وكذلك عائدات الصادرات الموظفة لسداد الديون. لقد سبّبت هذه الأزمة الاقتصادية التي كانت جذورها في الشمال، في موجة كبيرة من تعليق سداد الديون[8]. ويجب على الدارس لكل حالة من هذه الحالات أن يميّز بين بعض الخصوصيات.
فيما يخص حالة مصر، فإنّ البنوك الفرنسيّة التي كانت قد تأثّرت بالأزمة أقل من غيرها واصلت تقديم القروض لمصر مستغلّة هذه الوضعيّة لرفع نسب الفائدة بشكل كبير وكانت لا تقّدم في غالب الأحيان إلاّ القروض قصيرة المدّة. وفي سنة 1876 زادت هذه البنوك من ضغوطها على مصر وتشديد شروط الحصول على القروض مسبّبة تعليق مصر سداد
ديونها بغية إجبارها على قبول إنشاء صندوق الديون تراقبه المملكة المتحدة وفرنسا. وقد نجحت في ذلك في وئام تامّ مع بنوك لندن.
إنشاء صندوق الدين العمومي تحت الوصاية البريطانية والفرنسية
اتفقت حكومتا لندن وباريس- رغم تنافسهما- على اخضاع مصر لوصايتهما عبر صندوق الدين. وقد انتهجتا نفس الأسلوب في السنوات 1840-1850 وانطلاقا من سنة 1898 بالنسبة لليونان[9]، وفي عام 1869 بالنسبة إلى تونس[10] وانتهجتا نفس الآلية مع الإمبراطورية العثمانية بداية من سنة 1881[11].
وسميت المنظمة التي سمحت للقوى الدائنة بممارسة وصايتها على اليونان وتونس، بالكوميسيون المالي الدولي. أما في الإمبراطورية العثمانية، فسميت بإدارة الدين العمومي العثماني. أما في مصر، فقد لعب صندوق الدين نفس الدور منذ انشائه سنة 1876 [12].
وضع صندوق الدين العمومي يده على سلسلة من ايرادات الدولة، يتصرف فيها ممثلو المملكة المتحدة وفرنسا. وتمّت إعادة هيكلة الديون المصرية مباشرة إثر تأسيس هذه الهيئة، وهي هيكلة أرضت جميع البنوك المعنية لأنها لم تؤد الى أيّ تخفيض في الدين القائم. وتمّ تعيين نسبة فائدة مرتفعة قدّرت بـ 7٪، وعلى مدّة تسديد بـ 65 عاما. وكفل كل هذا مدخولا مريحا مضمونا من فرنسا والمملكة المتحدة وإيرادات الدولة المصرية التي يمكن أن ينهل منها صندوق الدين العمومي.
ويتجلى بوضوح إعطاء الأولوية لمراعاة مصالح البنوك، خلال حلّ أزمة الديون المصرية سنة 1876، في الرسالة التي بعث بها ألفونس ماليت- مصرفي خاصّ ومسؤول في بنك فرنسا – لوليام ادينغتون الوزير الفرنسي للشؤون الخارجية والرئيس المستقبلي لمجلس الوزراء. كتب المصرفي للوزير قبيل مؤتمر برلين لسنة 1878 الذي كان ستتمّ فيه مناقشة مصير الإمبراطورية العثمانية (وبخاصة ممتلكاتها في البلقان والبحر الأبيض المتوسط): “صديقي العزيز .. إذا انعقد المؤتمر، كما هو مأمول، يكفي الجمع بين آلية دولية … التي يمكنها ممارسة مراقبة ناجعة على الوكلاء الإداريين للحكومة، والمحاكم، وجمع الإيرادات والنفقات.
والذي تم فعله في مصر تحت ضغط الفوائد الخاصة بغض النظر عن أي اعتبار عمومي أوروبي لكل من المحاكم وخدمة الدين … يمكن أن يكون بمثابة نقطة الانطلاق. “( رسالة 31 مايو 1878. الذاكرة والوثائق، تركيا، رقم 119. أرشيف وزارة الشؤون الخارجية .)[13]
مقتطفات من مرسوم إنشاء صندوق الدين العمومي لمصر
موارد الدولة الموظّفة لتسديد الديون
تركيبة وتنظيم اللجان الثلاث للمجلس الأعلى للخزينة
إجراء يتعلّق بتنفيذ المرسوم
الرهانات الجيوستراتيجية بين القوى العظمى الأوروبية
إذا كان إنشاء صندوق الدين العمومي ثم إعادة هيكلة الديون المصرية قد أرضيا في المقام الأول مصالح المصارف، فمصالح القوى العظمى التي تنحدر منها تلك البنوك قد كانت أيضا رهانا مباشرا. وكانت المملكة المتحدة القوة الأولى أوروبيا وعالميا بدون منازع.
وكانت تعتبر أن من واجبها أن تسيطر وتهيمن تماما على شرق البحر الأبيض المتوسط الذي كان يحظى باكتساب أهمية كبرى بفضل قناة السويس التي تمكّن من الوصول مباشرة إلى الطريق البحري للهند (التي كانت جزءا من إمبراطورتيها) ولبقية آسيا. كانت المملكة المتحدة تريد تهميش فرنسا، التي كان لها بعض النفوذ في مصر بسبب البنوك ولأنّ قناة السويس قد تم تمويل بنائها عبر بورصة باريس. ومن أجل أن تنسحب فرنسا تاركة مكانها لإنجلترا، كان يجب أوّلا المحافظة على مصالح البنوك الفرنسية (التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلطات الفرنسية، وهذا أقل ما يمكن قوله) وثانيا عرض تعويض لها بجزء آخر من البحر الأبيض المتوسط. وكان هذا موضوع اتّفاق ضمني بين لندن وباريس: تعود مصر إلى المملكة المتحدة في حين تصبح تونس تحت السيطرة التامة لفرنسا. وفي سنوات 1876-1878، لم يتمّ بعدُ تعيين روزنامة دقيقة، ولكنّ الرؤية كان مكتملة الوضوح. وتجدر الإضافة أنّه في سنة 1878 اشترت المملكة المتحدة جزيرة قبرص من الإمبراطورية العثمانية. وقبرص هي منطقة أخرى من الهيمنة البريطانية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
ولن تحدّد فرنسا والمملكة المتحدة وحدهما مستقبل تونس ومصر. فقد أرادت ألمانيا أن تدخل على الخطّ ، فألمانيا أصبحت موحّدة وتعدّ إلى جانب المملكة المتحدة أهم قوّة أوروبية صاعدة ، لديها كلمتها. وكان أوتو فون بسمارك، المستشار الألماني واضحا في تصريحاته المتكرّرة خلال المحادثات الدبلوماسية السرية. إنّ المانيا لن تتخوّف من سيطرة لندن على مصر ومن استيلاء فرنسا على تونس. ولكن في المقابل، يريد أن يفسح المجال لألمانيا في أجزاء أخرى من العالم. وكان الزعماء السياسيون الفرنسيون مستوعبين جيدا دوافع بسمارك. فقد كانت ألمانيا قد ألحقت هزيمة عسكرية مذلّة بفرنسا في 1870-1871 وافتكت منها الألزاس واللورين. ويريد بسمارك، من خلال “إهداء” تونس لفرنسا، إلهاء باريس عن الألزاس واللورين بتقديم مكافأة مواساة لها. وتوجد وثائق عديدة جدا متوفرة في هذا الشأن.
وباختصار، فإن مصير مصر وتونس أنذر بالاقتسام الكبير للقارة الافريقية من طرف القوى العظمى الأوروبية الذي حدث بعد سنوات قليلة، في مؤتمر برلين سنة 1885.[14]
الاحتلال العسكري لمصر بداية من عام 1882 وتحوله الى انتداب
كانت الديون في حالتي مصر وتونس، أقوى سلاح استخدم من القوى الأوروبية لضمان سيطرتها واخضاع دول كانت حينها مستقلة.
بعد إنشاء صندوق الدين العمومي، بذلت البنوك الفرنسية قصارى جهدها للحصول على المزيد من المبالغ والأرباح وذلك بالتقليص المتدرج من تعهداتها الجديدة. فمنذ عام 1881، تخلّت البنوك الفرنسية عن إسداء القروض لمصر، واكتفت بجمع تسديدات الديون القديمة التي أعيدت هيكلتها. وفي شهر جانفي 1882 حين اندلعت أزمة بورصة باريس، كان للبنوك الفرنسية اهتمامات أخرى غير مصر.
فرض صندوق الدين العمومي على مصر تدابير تقشّف غير شعبية أفضت الى انتفاضات وحتى الى تمرد عسكري (اللواء أحمد عرابي دفاعا عن المواقف القومية ومقاومة لإملاءات القوى الأوروبية). استغلت المملكة المتحدة وفرنسا ذريعة التمرد فأرسلتا قوات تدخل سريع إلى الإسكندرية عام 1882. وفي الأخير، خاضت بريطانيا الحرب ضد الجيش المصري واحتلت البلاد عسكريا وبشكل دائم وحولتها إلى محمية. تحت الهيمنة البريطانية، تعطّلت التنمية تماما بمصر وخضعت لمصالح لندن. وكما كتبت روزا لوكسمبورغ سنة 1913: “وقع ابتلاع الاقتصاد المصري من رأس المال الأوروبي. فقد تم تحويل وجهة مساحات شاسعة من الأراضي، ومجهود كبير للقوى العاملة وكتلة هامة من المنتوجات في شكل ضرائب للدولة لتصل في نهاية المطاف إلى رأس مال أوروبي متراكم.[15]”
وسيتم حل صندوق الدين العمومي في جويلية 1940[16] (انظر الرسم البياني). وعمق الاتفاق المفروض على مصر من المملكة المتحدة سنة 1940 من الهيمنة المالية والاستعمارية لأن المملكة المتحدة فرضت ديمومة سداد الديون التي أضحت أبدية.
وكان لا بد لها من الإطاحة بالملكية سنة 1952 من قبل ضباط شباب تقدميين على رأسهم جمال عبد الناصر ومن تأميم قناة السويس في 26 جويلية 1956 حتى تحاول مصر، على مدى خمسة عشر عاما، تحقيق تنمية مستقلة ولو جزئيا.[17]
اتفاقية خاصّة بإلغاء صندوق الدين العمومي المصري
قائمة المراجع
. http://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k58053453/f1.image
- وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية. 1898. التسوية المالية مع اليونان: عمل اللجنة الدولية المكلفة بإعداد المشروع، باريس، 1898، 223 صفحة.http://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k5613443s/f1
- كارمن رينارت وكينيث روجوف، هذه المرة ليست كقبلها. ثمانية قرون من الجنون المالي، باريس، بيرسون، 2010.
- كارمن راينارت. بيلين سبرنشا .2015. تصفية الديون الحكومية. السياسة الاقتصادية 30 ، عدد. 82: ص 291-333
- ساك الكسندر ناحوم، 1927، آثار التغيرات في الدول على ديونها العامة وغيرها من الالتزامات المالية، مقتطفات سيراي، باريس.
- جان ماري ثيفو،. سوق في حالة ثوران : الإسكندرية (1850-1880). مجلة الاقتصاد المالي، 1994 عدد 30. الأسواق المالية الناشئة (II) تحت إشراف اوليفييه باستري. ص. 273-298.persee.fr/doc/ecofi_0987-3368_1994_num_30_3_2550
توسان، اريك. 2004. المالية ضد الشعوب. أموالك أو حياتك، CADTM-بروكسل / CETIM جنيف / Syllepse باريس، 640 ص.
توسان، اريك. 2016. “ولدت اليونان مستقلة مع الدين الكريه” http://cadtm.org/La-Grece-independante-est-nee-avec
توسان، اريك. 2016. “اليونان: استمرار عبودية الدين في أواخر القرن ال19 إلى الحرب العالمية الثانية”
http://cadtm.org/Grece-La-poursuite-de-l-esclavage
توسان، اريك. 2006. البنك الدولي: الدول الدائمة الانقلاب، لييج-باريس-جنيف-Syllepse CADTM-CETIM 2006.
WESSELING هنري. 1996. وتقسيم أفريقيا – 1880-1914 باريس، Denoël (فوليو التاريخ، 2002؛ 1st طبعة باللغة الهولندية في عام 1991)، 840 ص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شكر: يشكر المؤلف كلا من : جلبير أشقر، مختار بن حفصة ،عمر أزيكي، فتحي الشامخي، آلان غريش، غوستاف ماسياه، كلود كيمار، باتريك سوران، دومينيك فيدال لمراجعتهم هذا المقال واقتراحاتهم
يتحمّل المؤلف وحده المسؤولية التامة في أي خطإ محتمل في محتوى هذا العمل.
ترجمة : محمد أسامة الأخزوري ومختار بن حفصة
[1] https://en.wikipedia.org/wiki/Youssef_Darwish
[2] باتو جان، مصر محمد علي. السلطة السياسية والتنمية الاقتصادية، 1805 -1848. حوليات، اقتصاديات، مجتمعات، حضارات. 1991 السنة 46 عدد 2 صص 401 -428.
[3] جورج قرْم. 1982. ” مديونية البلدان النامية : أسبابها وآلياتها ” أورده سانشاز أرو كوورد 1982. الدين والتنمية (آليات المديونية ونتائجها في العالم الثالث) منشورات الجنوب، باريس ص 39. وفيما يخصّ التجربة اليابانية لمويجي التي أشار إليها جورج قرم يجدر التنويه إلى أن اليابان لم تلتجئ إلى التداين الخارجي لتحقيق تنمية اقتصادية هامّة وتحوّلها إلى قوة دوليّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. قد شهدت اليابان تنمية اقتصادية رأسمالية مستقلّة هامة للغاية وذلك على إثر الإصلاحات المحققة في عهد مويجي (بدأت سنة 1868) وهو ما منع التدخّل المالي الغربي على الأراضي اليابانية ومنع معيقات تداول رؤوس الأموال المحليّة. ومرّ اليابان في نهاية القرن التاسع عشر من اكتفاء ذاتي على مدى عهود إلى توسع امبريالي قويّ. لنتدبّر الأمر : لا أزعم من خلال هذه الملاحظة، بأنّ غياب التداين الخارجي هو العامل الوحيد الذي سمح لليابان بتحقيق قفزة نحو التطوّر الرأسمالي القوي وممارسة سياسة دولية عدوانية رفعها إلى مصاف القوى الامبريالية الكبرى. هناك عوامل أخرى لا يتّسع المجال هنا لاستعراضها فاعلة بدورها غير أنّه من البديهي أنّ غياب التداين الخارجي كان قد لعب دورا أساسيا. لمزيد الاطّلاع على الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية في اليابان، اقرأوا ، ”الدولة المطلقة، أصولها وطرقها” بيري اندرسون الجزء 2 ص 261 – 289
[4] قد كان أيضا في سنوات 1820 – 1826 تدفق هام للقروض نحو اليونان والبلدان المستقلة حديثا في أمريكا الجنوبية، من طرف بنوك لندن وباريس. وفيما بين 1822 و 1825 أقرضت بنوك لندن 20 مليون جنيه إسترليني للقادة الجدد في أمريكا اللاتينية (سيمون بوليفار وانطونيو سوكر وخوسيه دي سان مارتان…) الذين أنهوا الكفاح من أجل الاستقلال عن التاج الإسباني. وقد بلغ قرضا اليونان لسنتيْ 1824 و1825 من الساحة المالية في لندن ما قيمته 2.8 مليون جنيه إسترليني أي ما يعادل 120 % من الناتج الداخلي الخام للبلد في ذلك العصر.
[5] مازيرات آلوتورنار، مدير مقرّ كريدي ليوني، 4 أفريل 1872. أورده جان بوفييه في الفوائد المالية والمسألة المصرية (1875- 1876)، المنشورات الجامعية بفرنسا. المجلة التاريخية، الجزء 224، 1960.
[6] نائب الملك، وهو لقب وراثي تمنحه الإمبراطورية العثمانية لحاكم مصر فيما بين 1867 و1914.
[7] http://www.chassan.org/ismailia/boo
[8] يجدر التذكير كذلك أنّ تعليق تسديد الديون ليس حكرا على الاقتصاديات غير الأوروبية، فقد علقت اسبانيا أثناء القرن التاسع عشر تسديد ديونها 6 مرات وعلقت الإمبراطورية النمساوية المجرية السداد 5 مرات والبرتغال واليونان 3 مرات وبروسيا مرّتين وروسيا مرة واحدة. انظر ادوارد دريول وميشيل ليريتي، 926، التاريخ الديبلوماسي لليونان من 1821 إلى اليوم المجلد الرابع ص 301. وانظر أيضا رينهارد كارمن وروغولف كينيث، هذه المرة الامر مختلف . ثمانية قرون من الجنون المالي، باريس بيرسون، 2010.
[9] انظر إيريك توسان، “لقد ولدت اليونان المستقلة مع الدين الكريه” http://cadtm.org/La-Grece-independante-est-nee-avec نشرت في 12 أبريل 2016. وبعد أول تجربة للكوميسيون المالي التي يرجع تاريخها الى السنوات بين 1840-1850، وقعت اليونان منذ سنة 1898 تحت وطأة الكوميسيون المالي الدولي الذي كانت له السلطة الكاملة على جزء كبير من مداخيل الدولة.
انظر إيريك توسان، 2016. “اليونان: استمرار عبودية الدين في أواخر القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الثانية”، http://cadtm.org/Grece-La-poursuite-de-l-esclavage 9 التي نشرت في مايو 2016.
[10] سأنشر مقالا قريبا بخصوص اخضاع تونس إلى فرنسا في عام 1881.
[11] ا نظر لويز أبيلار، “الإمبراطورية العثمانية ضد” الترويكا “الفرنسية الألمانية-البريطانية: الرجوع الى علاقة الاستعمار والديون”، نشرت يوم 17 أكتوبر 2013 http://cadtm.org/L-Empire-Ottoman-face-a-une-troika
[12] اطلع على مرسوم إنشاء صندوق الدين 1876http://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k58053453/f1.image
[13] منقول عن جان بوفييه. 1960. “المصالح المالية وقضية مصر (1875-1876)”، الصحافة الجامعية الفرنسية – المراجعة التاريخية ، مجلد 224 ، كراس 1
[14] أنظر هنري وسلينغ 1996. تقسيم افريقيا – 1880-1914 . Paris, Denoël (Folio Histoire, 2002; الطبعة الاولى باللغة الهولندية عام 1991)، ص 840.
[15] روزا لوكسمبورج، .الشرح، المجلد. الثاني، ص. 104.
[16] انظر
http://treaties.fco.gov.uk/docs/fullnames/pdf/1940/TS0029%20%281940%29%20CMD-6244%201940%2017%20JUL,%20CAIRO%3B%20CONVENTION%20RELATIVE%20TO%20ABOLITION%20OF%20CAISSE%20DE%20LA%20DETTE%20PUBLIQUE%20EGYPTIENNE.pdf
[17] انظر إيريك توسان، البنك العالمي: انقلاب دائم في الحكم، لييج-باريس-جنيف -Syllepse CADTM-CETIM، 2006، ص. 73-75.